بني غازي بين الحقيقة والأسطورة



 

بني غازي بين الحقيقة والأسطورة  


بني غازي، قرية الجمال والخيال، لا تكاد تفارقها حتى تعود إليها، فإن غابَ الجسدُ ظلت الروحُ تحومُ في سمائها، فتُسعِدُكَ أخبارُها، وتطربُك حكاياتُها، قرية رغم ما يحدث فيها من خلافات إلا أنها بيئة خصبة للحياة والخيال، كل شيء فيها يجذبك إليها.
قرية بديعة، تنساب انسيابا من سفح جبل صبران شرقا لتلامس وادي المداد غربا، موقع خيالي، يجعلها سلطانة القرى وسيدتها، ومركزا للتنمية والسيطرة واتخاذ القرار. يكفي أن تكون من بني غازي ليُنسبَ إليك العلمُ والأدب، ويكفي أن تعيش فيها لتنال قسطا من الخيال، ففي كل زاوية تجد حكاية، وفي كل مكان تجد قصة. ومن لا يعرفها سيظن أن شبابها لا يعيشون الواقع، بقدر ما يعيشون الخيال، فكل ما تسمعه منهم يجب عليك أولا أن تفكر فيه، ثم تحلله ثم تسأل عنه ثم تحكم عليه، فكل ما تسمعه يجعلك في حيرة.
شباب لا يؤمن بالموجودات بقدر ما يؤمن بما وراء الطبيعة من أحداث خارقة. شباب صقلته الأرض والطبيعة فرفرف في عوالمها وخفاياها. وليس ذلك فحسب، بل تعلقت أرواحهم بتجليات ابن علون، وعبد الرحيم البرعي، وعبد القادر الجيلاني، وابن عربي والحلاج وغيرهم من أقطاب الصوفية الأبرار، فأدمنوا الجلسات الروحانية، والموشحات الصوفية، وما يواكب ذلك من قصص وحكايات. 

وأنت أيها الساري، لا تجزع إذا مررت بالقرية؛ فلا تكاد تصل إلى أطرفها حتى يصلك صوت الإنشاد، بصوت عذب، وروحانية خالصة، يتقاطر شجنا ومحبة:
يتثنى ومن رآه تثنى*
وحميم الأليم لا يستريح
أو تسمع صدىً بعيدا:
نظر المحب إلى المحب سلامُ *
والصمت بين العارفين كلامُ
*********

في عالم القرية ذاك، هل يتفاجأ المرء حين تصل إليه رسالة من شاب في القرية يقول فيها: (لا تصدق أن الخلاف الذي يحدث في القرية بخصوص تركيب المستشفى التركي في أرض بني غازي سببه العقد الموقع بين الجمعية والمجلس المحلي، أو أن الصراع القائم بين فريقين وهميين سببه الخوف من ضياع الأرض.
الحقيقة التي تجهلها ويجهلها الكثيرون؛ هي أن العمال في الأرضية عثروا على صندوق أثناء عملية الحفر والتسوية للأرض، وكما وصلني، فإن الصندوق اُحتجز في المجلس المحلي، ورفض أن يُطلع أحدا على ما فيه. فكل ما يحدث في القرية من صراع، سببه هذا الصندوق، ولا شيء آخر).

بعد قراءة الرسالة، يمكن للعقل أن يتفكر؛ هل ما ورد في الرسالة حقيقة أم خيالا؟!
ويمكن؛ لمن لا يعرفُ شيئا عن القرية أن يتهم المرسل بالخرف والجنون أو يقول عنه بأنه دخل مرحلة من الهيستيريا. ولكن الخبير بأحوال القرية، والمتتبع لأحداثها وما يتردد فيها، بين فترة وأخرى، بخصوص الكنوز التي عُثِر عليها في البيوت القديمة أو في المقابر، سيتريث في الحكم على الشاب. وربما لو شعر أن كلامه حقيقي، سيواصل الدردشة وسيفتح خزانة أسراره.

لنقل له إذن: كلامك صحيح، فلا يمكن أن يكون الخلاف بين الأهالي بسبب العقد وما يدور فيه من مسائل قانونية؛ بل إن ما وراء الأكمة ما وراؤها.
عندها سنجد الشاب يسترسل بالسرد، ويستشهد بقصص أخرى مشابهة، ويمكن أن نختصر الدردشة الطويلة فيما يلي:

(أنا أعيش في القرية، وأعرف ما فيها، أحتك بالجميع الصغير والكبير، الشيخ والرعوي، الغني والفقير، وربما أخزن معهم جميعا، وأستمع لكلامهم وحواراتهم. والتقط كل صغيرة وكبيرة وأخزنها في ذاكرتي، وأحلل الأمور بمنطقي الخاص، وقد سمعت الكثير عن القرية، وعن قصصها الحقيقية والخرافية، ولكن ما سأقوله لك الآن ليس خيالا؛ لأن مصدره، كما بلغني، مكتوب، وليست كلاما شفويا.
هل صدقت من قبل حكاية الكنوز أو الصناديق التي وجدها البعض في القرية؟ ستجيبني بـ(النفي) بكل تأكيد.

ولكني أوكد لك الآن؛ أن بعضَ ما سمعتَهُ صحيحٌ. وأن أحدهم عثر على كنز في إحدى البيوت القديمة، بعد أن ظل أياما وليالي يبحث فيها وينقب في أساساتها، ويحطم جدرانها.
طبعا، لم يُخبر أحدا بكل ما وجد. اكتفى بتسليمهم صندوقاً مهترئاً فيه كتب قديمة وبعض الأوراق الملفوفة بالجلد. وبين هذه الأوراق مخطوط يتحدث عن جزء من تاريخ القرية).
سنقول للشاب: كلامك مهم جدا، ينبغي التوقف عنده، وماذا أيضا؟.
يضيف: (الذي سمعته أن الكتب والمخطوطات ترجع لـفقيه القرية الذي كان يُعَلِّمُ الصبيان في فترة من فترات الحكم التركي. والحقيقة أنها لم تكن أولى المخطوطات التي عُثر عليها في القرية، فقد عَثر بعض الأهالي على مخطوطات وبعض المكنوزات في البيوت القديمة في القرية، كما عثروا على صناديق صدئة تحتوي على قطع فضية في المقبرة القديمة للقرية بعد أن جرفتها السيول، وأخرجت بعض العظام.

يُقال: إن مما جاء في المخطوط، أن قرية بني غازي تُنسب إلى الوالي التركي (سليمان غازي)، الذي جعل من قرية (الغازي) مقرا لحكمه، لموقعها الاستراتيجي، وتوسطها بين قرى كثيرة، و اسم (غازي) في حقيقته لقب أطلقه الأتراك في فترة الدولة العثمانية على القادة المجاهدين الفاتحين؛ لذلك تجدهم يسمون والد مؤسس الدولة العثمانية (أرطغرل غازي)، وابنه مؤسس الدولة (عثمان غازي)، وغيرهم من السلاطين والقادة الفاتحين في زمن دولة آل عثمان.

وجاء في المخطوط أيضا، أن (سليمان غازي) استند أثناء حكمه للمنطقة على الإمدادات التي كانت تأتيه من الحاميات العثمانية القريبة منه، وفي الأساس من ميناء مدينة المخا، ولم يهمل (الغازي سليمان) مشايخ القرى المجاورة، بل استند إليهم أيضا، واعتمد عليهم في حماية ظهره من أي غدر قد يحدث له، ولكن بعد ضعف الدولة العثمانية في مطلع القرن العشرين فَقَدَ (سليمان غازي) السند الأساسي، وتآمرت عليه قبائل من المقاطرة وشرجب وذبحان، ومجاميع أخرى جاءت من مدينة (إب).
طبعا؛ كما تزعم الرواية، أن التآمر على (الغازي سليمان) لم يكنْ محض فرصة تحينتها القبائل لتنقض عليه؛ بل كان هناك ثأر تاريخي بينها وبين الحكم التركي بشكل عام، ولم يشفع للغازي سليمان عدله وكرمه وانشغاله بهموم الناس ومشاكلهم، فتلك أشياء لا تُطفئ الأحقاد، ولا تمحو الثارات.

هل عرفت ما هو الثأر؟ أظنك لا تعرف، ولكن، يُقال بأنه المخطوط كشف عنه.
يُقال بأنه جاء في المخطوط أن الثأر في حقيقته، بدأ منذ زمن بعيد، منذ الوجود الأول للأتراك في القرن السادس عشر الميلادي، وقد كان بين آل النظاري والوجود التركي، فقد احتدم الصراع كثيرا حين قام الوالي التركي محمود باشا بقتل الفقيه علي بن عبد الرحمن النظاري في مدينة (إب)، وهو الموقف الذي صب في مصلحة الإمام الزيدي المطهر بن يحيى شرف الدين ليسيطر على مناطق شاسعة من اليمن الأعلى، وتهجير الكثير من آل النظاري.

بعد تلك الحادثة، تفرق آل النظاري في مناطق كثيرة، وظلت نفوسهم تتذكر ثأرهم القديم، ومع نهاية القرن التاسع عشر عاد الأتراك مرة أخرى لليمن، فكانت قرية الغازي مقرا لـ(لغازي سليمان)، وحين ضَعُف الحكم التركي تحالفت مجموعة من آل النظاري مع قبائل من المقاطرة، وبالتعاون مع مشايخ الطوق لقرية (الغازي) وأسقطوا (سليمان غازي) ودمروا ممتلكاته وسيطروا على قرية الغازي، أما جنود سليمان غازي فمنهم من قُتل ومنهم من هرب، وتم تقسيم المنطقة بين آل النظاري ومن جاء من المقاطرة، وشرجب وذبحان).

تلك أشياء سمعتها؛ ولم أطلع على المخطوط بنفسي، وسمعت أيضا أن القرية بقيت تسمى باسم (قرية الغازي) لفترة من الزمن، ثم استقر اسمها في آخر المطاف بالتسمية الحالية (بني غازي)؛ وهو اسم لم يقتنع به الكثيرون، لذلك تجدهم لا ينسبون أنفسهم إليه، فلا تجد أسماءهم مثلا (محمد الغازي أو سليمان الغازي ... وما إلى ذلك)، بينما هناك عُزلٌ قريبة مثل (بني حماد)، و(بني شيبة)، تجدهم ينتسبون إلى قراهم فيُسمون بـ(الحمادي)، و(الشيباني)، وكأن أبناء قرية (بني غازي) يريدون أن يمحوا أثر الوجود التركي لقريتهم، فتناسوا لقب (الغازي).

والآن يمكن العودة لموضوع المستشفى التركي المزمع إقامته في القرية.
يظن الكثيرون أن سبب معارضة بعض الأهالي عليه بسبب خلاف على بنود العقد، والحقوق المترتبة من إنشاء المشفى، وذاك خلاف سطحي، ولكن، استنادا إلى الحقائق التي كشفها المخطوط، والتي يجهلها الكثيرون، هي أن البعض يتهرب من كل ما هو تركي، فهم يعانون من عقدة الترك، ويخافون أن يعود الوجود التركي للقرية على شكل مستشفى ثم يلتهم كل شيء انتقاما للماضي. 

وليس ذلك فحسب، بل هناك من يقول بأن الأتراك يريدون معرفة المكان الذي دُفن فيه (الغازي سليمان)، وربما يريدون نقل الرفات إلى تركيا أو ربما يصنعون له ضريحا يليق به. ثم من خلاله يعود الوجود التركي للقرية من جديد على شكل استثمارات.
هذه مجرد تخمينات!!.

كل شيء جائز، وربما الأيام القادمة تكشف هذا الغموض، وربما لو اطلعنا على المخطوط لزال اللبس وعرفنا الحقيقة. وربما من خلاله سنعرف أسماء الأسر التي سكنت القرية في تلك الفترة.
لن نستبق الأحداث ..

لندع الأيام تتحدث، وتكشف لنا؛ هل ما سمعناه حقيقة أم أسطورة؟!).
*ملاحظة: هذا الموضوع لا يعتبر وثيقة تاريخية، ولا مرجعا للقرية وتاريخها، فكله معتمد على السماع، وننتظر معرفة حقيقة المخطوط وتحقيقه.*

د. نجيب نصر
31 ديسمبر 2017
Share on Google Plus

About ShamsAddeen

احب الاطلاع على كل شي , واعشق التدوين..

0 comments:

Post a Comment