قصه قصيرة : الثعبان الأسود
جَلسْنا أنا وَزوجتي مُتجَاورَين, في سَيارةِ الكيا الذاهبةُ إلى بَغدادِ الجَديدةَ ,لأشتري مَلابس لولديَّ الصَغيرين, رُغم مَعرفتي بأنهم لا يَرغبونَها, مهما غَلا ثَمنها, ويتشبَثونَ بالقول: إننا نريُدها عَصريه موّ مِنْ زَمنْ جَدي, وَما كانْ عليَّ وأمهم إِلا أن نَلوذَ بالصَمت,قالت لي ذات مرة أعطهمْ النقود, وليأتوا مَعنا, و يشترون الذي يَطيبُ خَاطِرهم, رَفضتُ طلبُها, وَقلتُ لها المدرسّة أهمُ من هذهِ الأمور إنها عَندي كالسبحَة ,إَنْ أنَفرطَ جزءٌ منها, انفَرطت كلها ,إنا لا أريدهم أن يَتهاونوا بمدرستهم ,لانقاش لا جِدال, وَسلموْا لي الأمر , كانتْ الساحات تَعج بالسَيارات ,فيما كان مُساعديّ السواق يَتصَايحون بأعلى أصواتهم كالديكه, هذا للبابِ الشرقي, وذَاكَ بغدادَ الجَديدة, وأخرْ إلى بابِ المعظم, وَلكن الطامةُ تكون كبيرهٌ لو صَادف مُعظمْ المنادين لمنطقهٍ واحدهُ, حَيثُ يَبدأ سباق الكيات, الذي يُزعجُ مُعظم الرُكاب ,وبظمنهم أنا ,تَوقفتْ السيا ره, لشابٍ في مقتل العمرُ,صعد إلى السيارةِ, وكانَ
َيحملُ كيساً بيدهِ, وَما كانَ من زوجتي ,إلا أنَ أخذََتْ الكيسُ منه كي تَساعدهُ في ركوب السيارة, وما كان مني أنا الأخر ,إلا أن أثبَ ,وارفعهُ من ذراعيهِ, وأجلسهُ أمامي, وهو يَترحم لوالدينا ,وَنحنُ نردَ الرحَمةَ لهُ بَالمثل,ناولتهُ زَوجَتي كيسهُ ,وَاخرجَ منهُ علبتيَّ (ميرندا) مناولاً زَوجتي واحده, وأعطاني الأخرى قائلاً :أنها
بمناسبةِ شَفائي, لقد نَذرتُ كل شَهرٌ ما قيمتهُ عَشرهَ ألاف دينار, اشتَري العَصائرَ, وَأوزعَها على أصحابِ السيارات, وعلى المارةِ, والركابُ, وَقالتْ له زَوجتي :لِمْ؟ كان يتكلمُ بصعوبةٍ بالغهٍ, وثقلاً في لسانُه, ويَسحبُ نَفسهُ بصعوبةٍ, وكأنهُ مَعقودْ اللسَان, وبادرتهُ زَوجتي بالقولِ :أظنك مَسحور؟فأجابَها بالنَفي, ليسَردَ قصتهُ, وقد سَحبَ رأسهُ إلى الوراءِ لنهايةِِ المقَعدْ:
أنها بَساتين فَخمهً ,ولعَينه حيث الكروم الممتَدْ إلى ما لانهايةٍ ,وأشَجارُ الحُمضيات ,من برتقالٍ وَليمونُ وَرمُان ,كنتُ اشتَغلَ سائقَ (شفل) عَندَ ابنْ عميْ ,الذي انفَقَ كل ما يَملكُ لشرائهِ, وَقالَ ليَّ اشتَغلْ فيه أنا وإياكَ مناصفةٍ ,وَتعاهَدنا أينما يَكن الشغلُ نَذهبَ لهُ, وَهذهِ المرة كانَ في ديالى موطنِ البرتقالُ والحَمضياتَ, واسَتعلمتُ مِنَ الذين استأجَروني ,ماذا يَريدون؟؟ فأجابني ابن صاحِبَ البستان, أن أحرثَ ارضٌ لهم مجاورة للبستانِ. كانَ السائق يُسيرُ بسرعةٍ جنونية ,وَضغطَ على الكابحِ بقوهٍ, فَملتُ إلى جهةِ اليَسار, فيما مالتْ زَوجتي نحويَ هَي الأخرى ,وابَتسمتْ في وجهي, وابَتسمتُ لها لأخَففَ من هولِ المَوقف, أو تَلكَ ألصَدمهُ, فيما الجالسُ أماميُ عاتبَ السُائق ,الذي أدرَكَ خَطأهُ وَصَمتْ ,انه صَمتٌ مُطبق, رَبما الصَمتُ الذي يَسبقُ العاصفة,واستطردَ في سردِ حكايته, أمرني ذَلكَ اللعَينُ بحراثةِ الأرضِ, فأجبته وأنا ارتبَ سترتي الرَصاصيةُ : ولِمْ لعَينْ, وَلمْ يَضركَ بشيءٍ, قالَ :صَبركَ عليَّ أخيْ,و ما كانَ مني إلا أن ألوذُ با لصَمتِ, وأتَرقبُ ما سَيدورُ,: أمرني بحراثهِ الأرض, كانَ (الشفل) يُزمجرُ بقوةٍ مُحدثاً صَوتاً مُزعجاً, تَناولتُ كوفيتي وكَمَمتُ بها كاملَ رَاسي ,لأتَخلصُ مِنْ ذلك الصَوت, وَمنْ ذراتُ الترابُ المتطايرُ حولَ (الشفل) من حولي , كانَ الترابُ ندياً لم يَجفْ بَعدْ ,واجَهتُ قوةً لا أعرفُ كنهُها تَجرنيْ للخلفِ , كانَ (الشفل) لا يَتقدمُ بسرعةٍ وكأنهُ فيل أبرهة,وكأَنَّ شيئاً ما يَدفعهُ, وَما أنْ رَفعتُ إحدى( الكيلات ),حَتى لمَحتُ شيئاً اسودَ, يسير أمامَ الترابُ, وأشعهُ الشمسَ لا تُفارقهُ, وأخَذَ يَلمعُ لمَعاناً يَبهرُ البُصرْ ,وإذا بيَّ أتَبينهُ, كانَ ثُعباناً أسود ,طولهُ يَربو على المترين وَنصف ,أصَابتنيَّ قَشعريرةٌ حَينَ رَايتهُ, أنا الذيْ لمْ أرى أفعى في حَياتي, أرى ثعبان, تَلعثمتُ, أنتبهَ ابن صاحبُ البُستان لتلعثمي, وما كانَ منهُ إلا أن صَعد جانبي, وهو يأمرني أن اسحَقَ رأسه تَملكتني الشفقةُ عُليه....فيما كانَ والدي حَزيناً هوَ الأخرْ , حَيثُ قَتلَ فرهود ابن سَيد الأرض التي نَعملُ فيها الأفعى زوجَ الثعبانُ الأسود في بستانِنا, انهَ كانَ أليفاً, وَكثيراً ما يَرقبهُ والدي من بَعيدِ, وكانَ وجههُ أليف , كأنه وجه أدَميٌ,دائم المكثُ في هذهِ الأرضِ ,حَدثَ ذات مَره في موسم زراعه الرز , كانوا جَميعهم في الحَقلِ ,وقد لمح والدي خصلات الزرع تَهتزُ اهتزازاً غيرَ مُنتظم, وفي منطقهٍ واحده ,قال:
أظنه خَنزيرُ, وَلا نَراهُ ,لأنَ الزرعَ عالٍ ,وَيصلَ طولهُ إلى حيث الصَدرَ, أناخَ رأسهُ ,وَتقدمَ ببطء ,ليرى ثُعبانينَّ, وَقدْ تَعانَقا عِناقَ الولهينَّ العُطشْ, ومَا كانَ منهُ, إلا أن عادَ مُسرعاً ,واخَذَ عَباءةَ أمي ,وَرمَاها على العاشقينِ ,الذينَ غابا في طقسيِهما الرائعين , ليتركا لهُ خرزَتينَ ,بقي لزَمنٍ بعيدٍ, يعتقد إنهما يَجلبانَ لهُ مَحبة نساءُ القرية, أبي كانَ حَزين لمقتلِ تَلكَ الأفعى....وأستدرك صاحبي قائلاً :وأردتُ أن اتركهُ ,ولكنه أصرَ على أنْ يأمرني اقضيَ عليهِ ,وقد وَصَمني بالجبنِ.... وهنا تَذكرتُ إحدى قصصَ موبسان القَصيرة (الأفعى)(1) رَفعَ حَجراً ثَقيلاً مِنَ الأرضِ وَفكرَ , ألانْ سَأقوم بتَحطيم رأسكِ ,بهذه الصَخرةُ, لكي أراكِ, وأنتِ ميَتةً ،لكي اسحَقَ من خلالكِ الشَيطانُ المَّاهر, الذي يَتلبسُ فيكِ ثَوبَ الخَطيئة ،أقطعكِ ارباً ارباً, لإبعادِ غواياتِ شروركْ .
لكنَ الغريبُ في الأمرْ ,انه لمْ يلقْ الحَجرَ فِوقَ رأسِها ,ولمْ يسقطهُ من يدهِ ،وَبدأ فجَأة يتملكهُ شعورٌ بالأسى ، قَال: أنا آسفُ ،وَرمى الحَجر بعيدًا ، : أرجوكِ أن تَعذريني ، أرى أن الحبُ وَحدهُ ما احَملهُ لكِ.. ثَم حَاولَ أنْ يَنوشها. بيدهِ لكي يَحملُها ،وكَلهُ رغبةٌ في فهم الحَقيقة المتأتية من جراءِ لمَسِها ، لكنَ الأمرْ كان في غايةِ الصَعوبةُ،فقد أخَذتَ تُرعبُ الأفعى, مُحاولته مد ذراعهُ في كلِ مَرة ،وأخَذتْ تَديرُ رأسَها مُستعدةً للهجوم : لا أملكُ نَحوكِ سوى شعوري بالحبِ ، لاتَخافيْ ، لاتخافيْ ،فَسوفَ لنْ أقدمْ على إيذائِك, بعد ذلك قام ,برفعِها منَ الأرضِ ،لكيْ يتَعرف شعورُ ملامَستَها الحَقيقي، لكنهُ رَماها من يدهِ, بسرعةٍ ،هناكَ ، قال: الآنْ عَرفتُ الحَقيقةْ ، الأفعى باردةَ ،ولكنها نَظيفةٌ ،وليستْ دبقة كما كنتُ أتوقعْ .وابتَسمْ للأفعى البنيةِ اللون.....
استمرَ بالمنادة علي وأنا ساهماً, وبَدلاً من الرجوعُ للخلفِ ألفَيتنَّي أتَقدمُ للأمام ,وإذا بي أمامَ حَقيقةٌ دامغةٌ, إذاً الثعبانُ أمامي, وَجهاً لوجهْ, وَهوَ يَتَفرسني, وأنا أتفرسهُ, وكأنه يَعرفني منذُ زمنٍ بَعيد, تَحركتْ يَدي المرتَجفةُ لتَمسكَ بالمقودِ, وَارفع (ألكيلهُ) عاليا ًفي كبدِ السماء باتجاههِ, كانتْ عَيناهُ حَمراوان يَتقادحانْ, وَكأن َالشرُّر يَتطايرُ منهُما,
وبلحظهٍ ما, وكأنكَ تَضغطُ على الزنادِ من بندقيةِ صَيدٍ, ما عَليكَ إلا أن تصوبَ جيداً, وَتغمضُ إحدى عَينيكَ لكي لا تخطيء الهدف, أغمَضتُ عَينيَّ ,ولمْ افتَحهما إلا بَعدَ شهرٍ وثلاثة أيام ,وَانأ فاقدُ الوَعي في المشفى, قالتْ زوجتي: أنها قصهٌ خاليهَ لا يُصدقها العَقلُ ,وَما كانَ منهُ إلا أن خَلعَ كامل قَميصهُ دونَ مراعاةٍ للحشمةِ,وارانا ظهرهُ , وإذا بثعبانٍ اسودٌ مَرسومٌ على ظهرهِ كما لو كانَ قوسُ نَصرٍ, كانَ
شاهداً, يُؤكدُ ما حَدثْ, فَفَغرتُ فاهاً, والتَفتُ إلى زَوجتي, كانتْ فاقدهُ الوَعي هيَ الأخرى *
(1)(الأفعى) قصه قصيرة للكاتب العالمي السريالي وليم سارويان
رضا الحربي
0 comments:
Post a Comment